ورأت قريش أن إنذارهم لم يجد نفعاً ، فالرسول صلى الله عليه وسلم ماض في عمله ، وأبو طالب قائم بنصرته ، وهذا يعني أنه مستعد لفراقهم وعداوتهم ومنازلتهم في نصرة ابن أخيه محمد صلى الله عليه وسلم فلبثوا ملياً يفكرون ويتشاورون ، حتى وصلوا إلى اقتراح غريب ، فقد جاءوا إلى أبي طالب ومعهم عمارة بن الوليد سيد شبابهم وأنهد فتى في قريش وأجمله ، فقالوا : يا أبا طالب خذ هذا الفتى ، فلك عقله ونصره واتخذه ولداً ، فهو لك وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك ودين آبائك ، وفرق جماعة قومك وسفه أحلامهم فنقتله ، فإنما هو رجل برجل . قال أبو طالب : والله لبئس ما تسومونني ، أتعطوني ابنكم أغذوه لكم ، وأعطيكم ابني تقتلونه ؟ هذا والله ما لا يكون أبداً .
اعتداءات على رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ولما فشلت قريش ويئسوا ، ورأوا أن الإنذار والتحدي والمساومة لم تجد نفعاً ، بدأوا بالإعتداءات على ذات رسول الله صلى الله عليه وسلم وزادوا في تعذيب المسلمين والتنكيل بهم .
وحيث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معززاً محتشماً محترماً ، فقد تولى إيذاءه كبراء قريش ورؤساؤهم ، ولم يجترئ على ذلك أدنابهم وعامتهم .
وكان النفر الذين يؤذونه في بيته أبا لهب ، والحكم بن أبي العاص بن أمية ، وعقبة بن أبي معيط ، وعدي بن حمراء الثقفي ، وابن الأصداء الهذلي – وكانوا جيرانه صلى الله عليه وسلم فكان أحدهم يطرح عليه رحم الشاة وهو يصلي ، وكان يطرحها في برمته إدا نصبت ، وكانوا إذا طرحوا عليه ذلك يخرج به على العود فيقف به على بابه ويقول : يا بني عبد مناف ! أي جوار هذا ؟! ثم يلقيه في الطريق . وكان أمية بن خلف إذا رآه همزه ولمزه . والهمز : الطعن والشتم علانية ، أو كسر العينين والغمز بهما ، واللمز العيب والإغراء .
وكان أخوه أبي بن خلف يتوعد النبي صلى الله عليه وسلم يقول : يا محمد إن عندي العود ، فرساً أعلفه كل يوم فرقاً من ذرة أقتلك عليه ، حتى قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل أنا أقتلك إن شاء الله وقد قتله يوم أحد وجاء أبي بن خلف هذا يوماً بعظم بال رميم ، ففته ، ونفخه في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم . وجلس عقبة بن أبي معيط إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسمع منه ، فبلغ أبياً – وكان صديقه – فعاتبه ، وطلب منه أن يتفل في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل .
أما أبو لهب فقد عاداه وآذاه من أول يوم ظهرت فيه الدعوة إلى الله ، وكانت في عقد ابنيه عتبة وعتيبة ابنتا رسول الله صلى الله عليه وسلم رقية وأم كلثوم ، فقال لهما : رأسي من رأسكما حرام إن لم تطلقا بنتي محمد ، وقالت زوجته أيضاً : طلقاهما فإنهما قد صبأتا فطلقاهما .
وكانت زوجته هذه – وهي أم جميل أروى بنت حرب – أيضاً عدوة لدودة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوته ، فكانت تأتي بالأغصان وفيها الشوك ، فتطرحها في سبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل ، حتى يعقر هو وأصحابه .
وسمعت بنـزول ( تبت يدا أبي لهب )فجاءت وفي يدها فهر – أي ملء الكف من الحجارة وهي تبحث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس مع أبي بكر عند الكعبة فأخذ الله ببصرها ، فلم تكن ترى إلا أبا بكر ، فقالت : أين صاحبك ؟ قد بلغني أنه يهجوني ، والله لو وجدته لضربت بهدا الفهر فاه ، أما والله إني شاعرة ثم قالت :
مذمماً عصينا وأمره أبينا ودينه قلينا
ثم انصرفت ، فقال أبو بكر : يارسول الله أما تراها رأتك ، فقال : ما رأتني لقد أخذ الله ببصرها .
وكان مما تؤذي به قريش أنهم كانوا يسمون رسول الله صلى الله عليه وسلم مذمماً بدل محمد ، يشتمون بذلك ويسبون ، ولكن صرف الله ذلك عنه ، حيث إنهم كانوا يشتمون مذمماوليس محمد .
وكان الأخنس بن شريق الثقفي أيضاً ينال من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أما أبو جهل فكان قد تحمل عبء الصد عن سبيل الله ، وقد كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم بقوله ، وينهاه عن الصلاة ،ويفخر ويختال بما فعل ، حتى شدد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوعده في يوم رآه يصلي ، فانتهره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذه بخناقه وهزه وقال : ( أولى لك فاولى ، ثم أولى لك فأولى ) فقال أتوعدني يا محمد ! والله لا تستطيع أنت ولا ربك شيئاً وإني لأعز من مشى بين جبليها .
وقال لرفقته يوماً : يعفر محمد وجهه بين أيديكم ؟ قالوا : نعم ، فقال : واللات والعزى لئن رأيته لأطأن على رقبته ، ولأعفرن وجهه ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي زعم ليطأ رقبته فما فجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه ، ويتقي بيديه ، فقالوا مالك يا أبا الحكم ؟ إن بيني وبينه خندقاً من نار وهولاً وأجنحة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً .
وحاز مثل هده الشقاوة عقبة بن أبي معيط ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي يوماً عند البيت ، وأبو جهل وأصحاب له جلوس ، إذ قال بعضهم لبعض : أيكم يجيء بسلا جزور بني فلان ، فيضعه على ظهر محمد إذا سجد ، فانبعث أشقى القوم عقبة بن أبي معيط ، فجاء به وانتظر ، فلما سجد وضعه بين كتفيه ، فجعلوا يضحكون ، ويحيل ( أي يميل ) بعضهم على بعض ، وهو ساجد لا يرفع رأسه ، حتى جاءته فاطمة وطرحته عن ظهره ، فرفع رأسه ، ثم قال : اللهم عليك بقريش ) فشق ذلك عليهم إذ دعا عليهم ، وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة ، ثم سماهم رجلاً رجلاً : ( اللهم عليك بفلان وفلان ) وقد قتلوا كلهم يوم بدر . وكان عظماء المستهزئين برسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة : الوليد بن المغيرة المخزومي ، والأسود بن عبد يغوث الزهري ، وأبو زمعة الأسود بن عبد المطلب الأسدي ، والحارث بن قيس الخزاعي ، والعاص بن وائل السهمي ،وقد أخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أنه سيكفي شرهم فقال : ( إنا كفيناك المستهزئين ) ثم أنزل على كل منهم ما فيه عبرة وعظة .
فأما الوليد فكان قد أصابه قبل سنين خدش من سهم ، ولم يكن شيئاً، فأشار جبريل إلى أثر ذلك الخدش فانتفض ، ، فلم يزل يؤلمه ويؤذيه حتى مات بعد سنين .
وأما الأسود بن عبد يغوث فأشار جبريل إلى رأسه فخرج فيه قروح ، فمات منها ، وقيل أصابه سموم ، وقيل : أشار جبريل إلى بطنه ، فاستسقى بطنه ، وانتفخ حتى مات .
وأما الأسود بن عبد المطلب فلما تضايق رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذاه دعا عليه وقال : ( اللهم أعم بصره وأثكله ولده ) فرماه جبريل بشوك في وجهه حتى ذهب بصره ، ورمى ولده زمعة حتى مات .
وأما الحارث بن قيس ، فأخذه الماء الأصفر في بطنه ، حتى خرج خرؤه من فيه فمات منه .
وأما العاص بن وائل ، فجلس على شبرقة فدخلت شوكة لها من أخمص قدمه ، وجرى سمها إلى رأسه حتى مات .
هذه صورة مصغرة لما كان يعانيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من قريش بعد إعلان الدعوة والجهر بها ، وقد اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطوتين إزاء هذا الموقف المتأزم .
دار الأرقم :
الأولى : أنه جعل دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي مركز الدعوة والعبادة ومقر التربية ، لأنها كانت في أصل الصفا ، بعيدة عن أعين الطغاة ، فكان يجتمع فيها مع صحابته سراً ، فيتلو عليهم آيات الله ، ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وبهذا التدبير وقى أصحابه كثيراً من الأحداث التي كان يخشى وقوعها لو اجتمع بهم جهراً وعلانية ، أما هو صلى الله عليه وسلم فكان يعبد الله ويدعو إليه جهراً بين ظهراني المشركين ، لا يصرفه عن ذلك ظلم ، ولا عدوان ، ولا سخرية ، ولا استهزاء ، وكان ذلك من حكمة الله حتى تبلغ دعوته إلى من يؤمن ومن لا يؤمن ، فلا تكون للناس على الله حجة بعد البلاغ ، ولئلا يقول قائل يوم القيامة : ما جاءنا من بشير ولا نذير .