سبل شتى لمواجهة الدعوة :
ولما انتهى الحج ، وعادت قريش إلى بيوتهم ، واطمأنوا كأنهم رأوا أن يعالجوا هذه المشكلة التي نشأت لأجل قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله وحده ، ففكروا واستشاروا ، ثم اختاروا سبلاً شتى لمواجهة هذه الدعوة والقضاء عليها ، نذكرها فيما يلي بإيجاز .
1 - الأول مواصلة السخرية والاستهزاء والإكثار منها :
والقصد من ذلك تخذيل رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، وتوهين قواهم المعنوية ، فكانوا يتهمون رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه رجل مسحور ، شاعر مجنون ، كاهن يأتيه الشيطان ، ساحر كذاب ، مفتر متقول ، وغير ذلك من التهم والشتائم ، وكانوا إذا رأوه يجيء ويذهب ينظرون إليه نظر الغضب والنقمة ، كما قال الله تعالى : ( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون ) وكانوا إذا رأوه يتهكمون به ، ويقولون : ( أهذا الذي يذكر آلهتكم ) . وإذا رأوا ضعفاء الصحابة قالوا : قد جاءكم ملوك الأرض ( أهؤلاء من الله عليهم من بيننا )
وقد أكثروا من السخرية والاستهزاء ، ومن الطعن والتضحيك حتى أثر ذلك في نفس النبي صلى الله عليه وسلم كما قال الله تعالى : ( ولقد نعلم أنه ليضيق صدرك بما يقولون ) ثم ثبته الله تعالى ، وبين له ما يذهب بهذا الضيق ، فقال : ( فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين ، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) وقد بين له ذلك ما فيه التسلية حيث قال : ( إنا كفيناك المستهزئين ، الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر فسوف يعلمون ) وأخبره أن فعلهم هذا سوف ينقلب وبالاً عليهم فقال : ( ولقد استهزيء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون ) .
2 – الثاني : الحيلولة بين الناس وبين الاستماع إلى النبي صلى الله عليه وسلم :
فقد قرروا أن يثيروا الشغب ، ويرفعوا الضوضاء ، ويطردوا الناس كلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يستعد ليقوم بالدعوة إلى الله فيما بينهم ، وأن لا يتركوا له فرصة ينتهزها لبيان ما يدعو إليه ، وقد تواصوا بذلك فيما بينهم ، قال الله تعالى : ( وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ) وقد ظلوا قائمين بذلك بكل شدة وصلابة ، حتى إن أول قرآن تمكن النبي صلى الله عليه وسلم من تلاوته في مجامعهم هو سورة النجم – وذلك في رمضان في السنة الخامسة من النبوة - .
وكانوا إذا سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن في صلاته وأكثر ما كان يتلوه في صلاته بالليل – سبوا القرآن ، ومن أنزله ، ومن جاء به ، حتى انزل الله تعالى : ( ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا ) .
وذهب النضر بن الحارث إلى الحيرة والشام ، فتعلم منهم قصصاً شعبية ، كانوا يحكونها عن ملوكهم وأمرائهم مثل : رستم و إسفنديار ، فلما رجع أخذ يعقد النوادي والمجالس ، يقص هذه القصص ويصرف بها الناس عن الاستماع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإذا سمع بمجلس جلس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم للتذكير بالله ، خلفه في ذلك المجلس ، ويقص عليهم من تلك القصص ، ثم يقول:بماذا محمد أحسن حديثاً مني .
ثم تقدم خطوة أخرى ، فاشترى جارية مغنية ، فكان لا يسمع أحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى تلك المغنية ، ويقول أطعميه واسقيه وغنيه ، هذا خير مما يدعوك إليه محمد ، وفي ذلك أنزل الله تعالى : ( ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً أولئك لهم عذاب مهين ) .
الثالث : إثارة الشبهات وتكثيف الدعايات الكاذبة :
فقد أكثروا من ذلك وتفننوا فيه ، فربما كانوا يقولون عن القرآن : إنه ( أضغاث أحلام ) أي أحلام كاذبة يراها محمد صلى الله عليه وسلم بالليل ، فيتلوها بالنهار وأحياناً كانوا يقولون : ( افتراه من عند نفسه ) وأحياناً كانوا يقولون : ( إنما يعلمه بشر ) وربما قالوا : ( إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون ) أي اشترك هو وزملاؤه في اختلاقه : ( وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ً ) وأحياناً قالوا : إن له جناً أو شيطاناً يتنزل عليه بالقرآن مثل ما ينزل الجن والشياطين على الكهان ، قال – تعالى – رداً عليهم : ( قل هل أنبئكم على من تنزل الشياطين ، تنزل على كل أفاك أثيم ) أي إنها تنزل على الكذاب الفاجر المتلطخ بالذنوب ، وما جربتم علي كذباً ، ولا وجدتم في فسقاً ، فكيف تقولون إن القرآن من تنزيل الشيطان ؟
وأحياناً كانوا يقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قد أصابه نوع من الجنون ، فهو يتخيل المعاني ثم يصوغها في كلمات بديعة رائعة ، كما يصوغ الشعراء ، فهو شاعر وكلامه شعر ، قال الله تعالى رداً عليهم : ( والشعراء يتبعهم الغاوون ، ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون ، وأنهم يقولون ما لا يفعلون ) فهذه ثلاث خصائص يتصف بها الشعراء ، ولا توجد واحدة منها في النبي صلى الله عليه وسلم فالذين اتبعوه هداة ، متقون ، صالحون في دينهم ، وخلقهم وأفعالهم ، وتصرفاتهم ، ومعاملاتهم ولا توجد عليهم مسحة من الغواية في أي شأن من شئونهم ، وهو لا يهيم في الأودية كلها كما يهيم الشعراء ، بل يدعو إلى رب واحد ، ودين واحد وصراط واحد ، وهو لا يقول إلا ما يفعل ، ولا يفعل إلا ما يقول ، فأين هو من الشعر والشعراء ؟ وأين الشعر والشعراء منه .
الرابع : النقاش والجدال :
وكانت ثلاث قضايا استغربها المشركون جداً ، وكانت هي الأساس في الخلاف الذي حصل بينهم وبين المسلمين في أمر الدين ، وهي : التوحيد والرسالة ، والبعث بعد الموت ، فكانوا يناقشون في هذه القضايا ، ويجادلون حولها .
فأما البعث بعد الموت فلم يكن عندهم في ذلك إلا التعجب والاستغراب ، والاستبعاد العقلي فقط ، فكانوا يقولون : ( أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون ، أو آباؤنا الأولون ) وكانوا يقولون : ( ذلك رجع بعيد ) وكانوا يقولون : ( هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد ، أفترى على الله كذباً أم به جنة ) وقال قائلهم :
أموت ثم بعث ثم حشر حديث خرافة يا أم عمرو
وقد رد الله عليهم بأنواع من الردود ، حاصلها أنهم يشاهدون في الدنيا أن الظالم يموت دون أن يلقى جزاء ظلمه ، والمظلوم يموت دون أن يأخذ حقه من ظالمه ، والمحسن الصالح يموت قبل أن يلقى جزاء إحسانه وصلاحه ، والمسيء يموت قبل أن يعاقب على سيئاته ، فإن لم يكن بعد الموت يوم يبعث فيه الناس فيؤخذ من الظالم للمظلوم ، ويجزى المحسن الصالح ، ويعاقب المسيء الفاجر ، لاستوى الفريقان ، ولا يكون بينهما فرق ، بل يصير الظالم والمسيء أسعد من المظلوم والمحسن التقي ، وهذا غير معقول إطلاقاً ، وليس من العدل في شيء ، ولا يتصور من الله سبحانه أن يبني نظام خلقه على مثل هذا الظلم والفساد ، قال تعالى : ( أفنجعل المسلمين كالمجرمين ،ما لكم كيف تحكمون ) وقال : ( أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون ) وأما الاستبعاد العقلي ، فقال : رداً عليهم في ذلك : ( أأنتم أشد خلقاً أم السماء ..) وقال : ( أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير ) وقال : ( ولقد علمتم النشأة الولى فلولا تذكرون ) وقال : ( كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين ) وذكرهم ما هو معتاد لديهم ، وهو أن الإعادة ( أهون عليه ) وقال : ( أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد ) .
وأما رسالة النبي صلى الله عليه وسلم فكانت لهم حولها شبهات مع معرفتهم واعترافهم بصدق النبي صلى الله عليه وسلم وأمانته وغاية صلاحه وتقواه ، وذلك أنهم كانوا يعتقدون أن منصب النبوة والرسالة أعظم وأجل من أن يعطى لبشر ، فالبشر لا يكون رسولاً ، والرسول لا يكون بشراً ، حسب عقيدتهم ، فلما أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نبوته ورسالته ، ودعا إلى الإيمان به تحير المشركون ، وتعجبوا ، وقالوا : ( مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ) قال تعالى : ( بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب ) وقالوا : ( ما أنزل الله على بشر من شيء ) .
وقد أبطل الله عقيدتهم هذه ، وقال رداً عليهم : ( قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس ) وقص عليهم قصص الأنبياء والرسل ، وما جرى بينهم وبين قومهم من الحوار ، وأن قومهم قالوا إنكاراً لرسالتهم : ( إن أنتم إلا بشر مثلنا ) و( قالت لهم رسولهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده ) فالأنبياء والرسل كلهم كانوا بشراً ، واما أن يكون الرسول ملكاً فإن ذلك لا يفي بغرض الرسالة ومصلحتها ، إذ البشر لا يستطيع أن يتأسى بالملائكة ، ثم تبقى الشبهة كما هي ، قال تعالى : ( ولو جعلنا ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون ) .
وحيث أن المشركين كانوا يعترفون أن إبراهيم وإسماعيل وموسى عليهم السلام كانوا رسلاً وكانوا بشراً ، فإنهم لم يجدوا مجالاً للإصرار على شبهتهم هذه ، ولكنهم أبدوا شبهة أخرى ، قالوا : ألم يجد الله لحمل رسالته إلا هذا اليتيم المسكين ؟ ما كان الله ليترك العظماء الكبار من أشراف قريش وثقيف ، ويرسل هذا ، ( لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) أي مكة والطائف ، قال تعالى رداً عليهم : ( أهم يقسمون رحمة ربك ) ، يعني الوحي والقرآن والنبوة والرسالة رحمة من الله ، والله يعلم كيف يقسم رحمته ، وأين يضعها ، فمن يعطيها ، ومن يحرمها ، قال تعالى : ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) .
فانتقلوا بعد ذلك إلى شبهة أخرى قالوا: إن من يكون رسولاً لملك من ملوك الدنيا يوفر له الملك أسباب الحشمة والجاه من الخدم ، والحشم ، والضيعة ، والمال ، والأبهة ، والجلال ، وغير ذلك ، وهو يمشي في موكب من الحرس والمرافقين أصحاب العز والشرف ، فما بال محمد يدفع في الأسواق للقمة عيش يدعى أنه رسول الله ؟: ( لولا أنزل عليه ملك فيكون معه نذيراً ، أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً ) .
معلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أرسل إلى جميع أنواع البشر : صغارهم وكبارهم ، وضعافهم وأقويائهم ، وأذنابهم وأشرافهم ، وعبيدهم وأحرارهم فلو حصل له ما تقدم من الأبهة ، والجلال ، ومواكبة الخدم ، والحشم ، والكبار ، لم يكن يستفيد به ضعفاء الناس وصغارهم ، وهم جمهور البشر ، وإذن لفاتت مصلحة الرسالة ، ولم تعد لها فائدة تذكر ، ولذلك أجيب المشركون على طلبهم هذا بأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول ، يعني يكفي لدحض شبهتكم هذه أنه رسول ، والذي طلبتموه له من الحشمة والجاه والموكب والمال ، ينافي تبليغ الرسالة في عامة الناس بينما هم مقصودون بالرسالة .
أما قضية التوحيد فكانت رأس القضايا وأصل الخلاف ، وكان المشركون يقرون بتوحيد الله سبحانه وتعالى في ذاته وصفاته وأفعاله ، فكانوا يعترفون بأن الله تعالى هو الخالق الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما ، وهو خالق كل شيء ، وهو المالك الذي بيده ملكوت السماوات والأرض وما بينهما وملكوت كل شيء ، وهو الرازق الذي يرزق الناس والدواب والأنعام ، ويرزق كل حي ، وهو المدبر الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ، ويدبر أمر كل صغير وكبير حتى الذرة والنملة ، وهو رب السماوات والأرض وما بينهما ورب العرش العظيم ، ورب كل شيء ، سخر الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب والجن والإنس والملائكة ، كل له خاضعون ، يجير من يشاء على من يشاء ولا يجار عليه أبداً ، يحيي ويميت ، ويفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه .
وهم بعد هذا الإقرار الصريح لتوحيد الله – سبحانه وتعالى – في ذاته وصفاته وأفعاله كانوا يقولون : إن الله تعالى أعطى بعض عباده المقربين – كالأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين – شيئاً من التصرف في بعض أمور الكون ، فهم يتصرفون فيه بإذنه مثل : هبة الأولاد ، ودفع الكربات ، وقضاء الحوائج، وشفاء المرضى ، وأمثال ذلك . وأن الله إنما أعطاهم ذلك لقربهم من الله ، ولجاههم عند الله ، فهم لأجل أن الله منحهم هذا التصرف وهذا الخيار يقضون بعض حاجات العباد عن طريق الغيب ، فيكشفون عنهم بعض الكربات ، ويدفعون بعض البليات ، ويقربون إلى الله من يرضون به ، ويشفعون له عنده .
والمشركون على أساس زعمهم هذا جعلوا هؤلاء الأنبياء والأولياء والصالحين وسيلة فيما بينهم وبين الله ، واخترعوا أعمالاً يتقربون بها إليهم ، ويبتغون بها رضاهم ، فكانوا يأتون بتلك الأعمال ثم يتضرعون إليهم ، ويدعونهم لقضاء حوائجهم،ويستغيثون بهم في شدائدهم ، ويستعيذون بهم في مخاوفهم .
أما الأعمال التي اخترعوها للتقرب إليهم فهي أنهم خصصوا لهؤلاء الأنبياء أو الأولياء والصالحين أماكن ، وبنوا لهم فيها البيوت ، ووضعوا فيها تماثيلهم التي نحتوها طبق صورهم الحقيقية أو الخيالية وربما وجدوا قبور بعض الأولياء والصالحين حسب زعمهم ، فبنوا عليها البيوت دون أن ينحتوا لهم التماثيل ثم كانوا يقصدون هذه التماثيل وتلك القبور ، فكانوا يمسحونها ويتبركون بها ، ويطوفون حولها ، ويقومون لها بالإجلال والتعظيم ، ويقدمون إليها النذور والقرابين ، ليتقربوا بها إليهم ، ويبتغوا بها من فضلهم ، وكانوا ينذرون لهم مما كان يرزقهم الله من الحرث والزرع والطعام والشراب والدواب والأنعام والذهب والفضة والأمتعة والأموال .
فأما الحرث والزرع والطعام والشراب والذهب والفضة والأمتعة والأموال فكانوا يقدمونها إلى أماكن وقبور هؤلاء الصالحين ، أو إلى تماثيلهم ، بواسطة سدنة وحجاب كانوا يجاورون تلك القبور والبيوت ، ولم يكن يقدم إليها شيء إلا بواسطتهم في معظم الأحوال .
وأما الدواب والأنعام فكان لهم فيها طرق ، فربما كانوا يسيبونها باسم هؤلاء الأولياء والصالحين ، من أصحاب القبور أو التماثيل ، تقرباً إليهم وإرضاءً لهم ، فكانوا يقدسون هذه الدواب ، ولا يتعرضون لها بسوء أبداً ترتع ما شاءت ، وتتجول أين شاءت ، وربما كانوا يذبحونها على أنصاب هؤلاء الأولياء – أي على قبورهم وأماكنهم المخصصة لهم – وربما كانوا يذبحونها في أي مكان آخر ، ولكن كانوا يذكرون أسماءهم بدل اسم الله – سبحانه وتعالى - .
وكان من جملة أعمالهم أنهم كانوا يحتفلون بهؤلاء الأولياء والصالحين مرة أو مرتين في السنة ، فكانوا يقصدون قبورهم وأماكنهم من كل جانب ، فيجتمعون عندها في أيام خاصة ، ويقيمون لها أعياداً ، يفعلون فيها كل ما تقدم من التبرك والمسح والطواف وتقديم النذور والقرابين وغير ذلك ، وكان كالموسم يحضره الداني والقاصي ، والشريف والوضيع ، حتى يقدم كل أحد نذره ، وينال بغيته .
كانوا المشركون يفعلون كل ذلك بهؤلاء الأولياء والصالحين تقرباً إليهم وإرضاءً لهم ، ليجعلوهم وسطاء بينهم وبين الله ، وليتوسلوا بهم إلى الله ، معتقدين أنهم يقربونهم إلى الله زلفى ، ويشفعون لهم عند الله ، ثم كانوا يدعونهم لقضاء حوائجهم ودفع كرباتهم ، معتقدين أنهم يسمعون لما قالوا ، ويستجيبون لما دعوا وطلب منهم ، فيقضون حوائجهم ، ويكشفون كرباتهم ، إما بأنفسهم ، وإما بشفاعتهم لذلك عند الله .
فكان هذا هو شركهم بالله ، وعبادتهم لغير الله ، واتخاذهم آلهة من دون الله ، وجعلهم شركاء لله ، وكان هؤلاء الأولياء والصالحون وأمثالهم هم آلهة المشركين .
فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى توحيد الله ، وخلع كل ما اتخذوه إلهاً من دون الله ، شق ذلك على المشركين ، وأعظموه وأنكروه ، وقالوا : إنها مؤامرة أريد بها غير ما يقال ، وقالوا: ( أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب ، وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد ، ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق .
ثم لما تقدمت الدعوة وقرر المشركون الدفاع عن شركهم ، والدخول في النقاش والجدال ومناظرة المسلمين ليكفوا بذلك الدعوة إلى الله ، ويبطلوا أثرها في المسلمين ، أقيمت عليهم الحجة من عدة جوانب ، فقيل لهم : من أين علمتم أن الله تعالى أعطى عباده المقربين التصرف في الكون ، أنهم يقدرون على ما تزعمون من قضاء الحوائج وكشف الكربات ؟ هل أطلعتم على الغيب ؟
أو وجدتم ذلك في كتاب ورثتموه عن الأنبياء أو أهل العلم ؟
قال تعالى : ( أم عندهم الغيب فهم يكتبون ) وقال : ( ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين ) وقال : ( قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون ) .